لا يحدث التعليم في العالم العربي في المدارس والجامعات فقط بل في المنزل والجامع والشارع أيضاً، حيث يسود التلقين الديني، وكذلك عبر المحطات الفضائية، التي تلقّح العقول بما يُغلقها. فخطب الجمعة، التي كانت تنتشر في البداية في الكاسيتات، انتقلت الآن إلى فضاء التواصل الاجتماعي في ما يشبه الغزو. وفي عالم تسود فيه النعرات الطائفية، وأُطر ما قبل الدولة والمجتمع، يدّعي كلّ طرف أنه يمتلك الحقيقة، وهذه "الحقيقة" قد تكون سمّاً يزرع الكراهية في النفوس، ولكنها تجد طريقها إلى العقول المتلقية كما لو أنها أفواه مفتوحة تتناول الطعام فحسب. وقد لعب فشل التعليم المؤسساتي في العالم العربي دوراً في هذا الوضع الذي يعمّ الوطن العربي تقريباً.
ثمة شرخ واضح بين ثقافة الناس وثقافة الأكاديميين، بين ما يجري في الجامعة، وما يجري في الشارع، ولم تكن الدراسة معنية أبداً بأوضاع الناس والمشكلات التي يعانون منها، بل كانت الأفكار منفصلة عن الواقع بطبقاته المتعددة، كل ما عليك فعله هو أن تدرس وتعود إلى المراجع وتكتب موضوعاً نظرياً منفصلاً عن واقعك لترقى على سلم التعليم.
فضلاً عن ذلك، إن السياسات العربية عبر تاريخها قائمة على انتفاء الثقافة السياسية، ذلك أنها ليست انعكاساً للتعليم أو للخبرة أو للمعرفة الأكاديمية، أي أن السياسيّ ليس نتاج معرفة سياسية، أو معرفة استشارية أكاديمية، ولم يكن السياسيون العرب معنيين في يوم من الأيام باستشارة مثقف أو مفكر أو خبير في أي موضوع سوى الموضوعات الأمنية، حتى أن السياسيين العرب يمكن أن يتبنوا سياسات اقتصادية مدمرة لبلدانهم دون أن يستشيروا خبيراً اقتصادياً واحداً، ويمكن أن يطبّعوا اقتصادياً مع دولة لا يعرفون عنها أي شيء ولا يعرفون عن تأثير هذا التطبيع على شعوبهم أي شيء، ولا يمتلكون أستاذاً جامعياً واحداً يعرف عن البلدان التي يطبّعون معها أي شيء.
الأمر الآخر هو أن المدارس والجامعات لا تدرّس بشكل كامل الفن الحديث والشعر الحديث والرواية الحديثة والأفكار الحديثة المشككة بالعقائد القطعيّة وتهيمن الرؤية التقليدية على الأساتذة في كثير من الجامعات.
هذا يفسّر المرتبة المتدنية للجامعات التي ليست، في هذا المنظور، سوى ساحات للمراقبة والسيطرة وصناعة الولاء، للتأكد من أن الأجيال الجامعية ستظل فارغة الذهن، غير معنية بقضاياها الواقعية الملحّة، وغير داخلة في حراك سياسي خارج التحكّم.
الأمر الأكثر خطورة، هو انفصال الجامعات العربية عن سياق التطورات العلمية والمعرفية الجارية في الغرب، وانتفاء التطورات الذاتية لدينا. والسؤال الذي يُطرح هنا: ما القيمة العلمية والمعرفية للشهادات التي تُمنح إذا كانت الجامعات بعيدة عن التطورات الجارية في جميع الحقول العلمية والمعرفية في العالم؟ ألا يشكّل هذا خطورة لا سابق لها، خاصة إذا وضعنا في الحسبان أن من يتلقون هذه المعارف غير الدقيقة وغير المواكبة لتطور موضوعها نفسه، هم الذين سيقودون المجتمع؟
في كتابه "مواطن الحداثة، مقالات في صحوة دراسات التابع" يقول المفكر الهندي ديبش شاكرابرتي: "إذا وجب أن تكون الحداثة قابلة للتعريف، ومفهوماً قابلاً للتحديد، فيجب علينا تحديد بعض الأشخاص أو الممارسات أو المفاهيم بوصفها "غير حديثة". فهل يمكن القول، انطلاقاً من هذا، إنّ فتح فروع لجامعات غربية في منطقة ما من العالم بعيدة عن سياق التطور، الذي تُعدُّ الجامعات الغربية امتداداً وتتويجاً له على مدى القرون، هو ممارسة "غير حديثة"؟ إنّ فتح فروع لصروح فكّكت المقدّس ورسّخت ثقافة الحرية وطرح الأسئلة على كل شيء، في بلدان تهيمن عليها "ثقافة الموروث"، حيث لا يُسمح بطرح أي سؤال على أيّ شيء جوهري، سيؤدي في النهاية إلى إعادة إنتاج هذا المقدّس في هذه الفروع، وبالتالي فإنّها ستُنتج تعليماً منفصلاً عن السياق والواقع، وتؤلف كتاباً أو أطروحة لا تعالج المشكلات الجوهرية المحلية، وسيؤدي بها الأمر إلى معاودة تصنيع ابن البلد كتابع أكاديمي مرتبط بالغرب أكثر مما هو مرتبط ببيئته المحلية، أو ربما تعاود هذه الفروع إنتاج الثقافة والخبرة الأكاديمية كما لو أنّها في الغرب، ليس في أطرافه، بل في جزء في أطرافه المهمّشة، كلّ ما فيه مترابط ومتشابك مع آليات الاستثمار في المركز.
إن انحدار التعليم يعني انحدار السياسة وانحدار الاقتصاد وانحدار الثقافة، وبالتالي إن الجامعة تتحول إلى معمل لتخريج الطلاب الحاصلين على شهادات تؤهلهم للتوظيف لكنها لا تؤهلهم للإبداع وحل مشكلات الواقع المستعصية، ذلك أن الدراسة الأكاديمية، إذا كان يجب أن تلعب دورها الحقيقي، يجب أن يكون هدفها تنوير العقول، عبر دراسة الظواهر والوقائع وتفكيكها للوصول إلى حلّ لمشكلات قائمة، أو لتوسيع الوعي البشري من أجل مزيد من الرقيّ والتقدم، ويجب أن يكون هدفها تعميق الاختصاصات وتخريج طبيب متخصص وجرّاح متخصص وكيميائي متخصص ومهندس متخصص...إلخ، وجميعهم يتقنون العمل في مجالاتهم، لكننا محرومون من هذه النعمة، دون أن يعني الكلام غياب حالات استثنائية تحترم اختصاصها وعملها. وفي هذا السياق ماذا يعني أن تكون ثقتنا بالمتخرجين من الجامعات الغربية أكبر؟
ثمة أسئلة تطرح نفسها بقوة: لماذا التعليم مترد في جميع مراحله لدينا؟ ولماذا نلهث وراء المدارس الخاصة ونُفقر العامة؟ ولماذا لا نغيّر أو نثوّر مناهجنا المدرسية والجامعية؟ ولماذا لا نقيم مراكز دراسات ونموّل الباحثين كي يقوموا بالتأليف والتفكيك وإرساء الفكر النقدي التحليلي؟ ولماذا لا نعتبر أن من أولويات الربيع العربي ليس تغيير الأنظمة فقط بل تغيير المدارس والجامعات ومناهجها وإنشاء أفق حقيقي لتعليم حقيقي، وتغيير القوانين التي لا تتماشى مع العصر، ونسف البنية المنتجة للاستبداد في العمق؟ لماذا لا يوجد لدينا أنثروبولوجيون ولسانيون وعلماء سياسة وعلماء اجتماع كالذين تنتجهم الجامعات الغربية؟
إن أزمة التعليم لدينا أزمة مصيرية، والخروج من وضع التخلف التاريخي الذي تقيّدنا فيه كلّ من الدكتاتوريات المحلية، والأنظمة الغربية وسياساتها الليبرالية الجديدة، لا يمكن أن يتم إلا إذا أعدنا النظر جذرياً بالتعليم في جميع مراحله، لأن في إعادة النظر هذه، وفي حل هذه المشكلة، يكمن مستقبلنا المشرق.
في حوار أجراه ديفد باراسيميان معه نُشر في كتاب بعنوان "مواجهة الإمبراطورية"، وصف المفكر الباكستاني إقبال أحمد الشعوب العربية بـ"الشعوب المقيدة بالأغلال"، مضيفاً أنه حين تحطّم هذه الشعوب أغلالها فإنها ستغيّر وجه العالم. إن تعليماً حقيقياً سيساهم في تحطيم هذه القيود.